فصل: سورة آلِ عِمْرَانَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الناسخ والمنسوخ



.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ وَالْعِشْرِينَ:

قَالَ جَلّ وَعَزَّ {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].
فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا نَاسِخَةٌ احْتَجَّ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ كَانَ إِذَا أَعْسَرَ مِنْ دَيْنٍ عَلَيْهِ بِيعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْمَدِينُ دَيْنَهُ مِنْهُ فَنَسَخَ اللَّهُ جَلّ وَعَزَّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وَيَدُلُّكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِي حَدَّثَنَا، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ الْوِحَاظِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزَّنْجِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ، قَالَ: كُنْتُ بِمِصْرَ فَقَالَ لِي رَجُلٌ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ بَلَى فَأَشَارَ إِلَى رَجُلٍ فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ مَنْ أَنْتَ رَحِمَكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَنَا سُرَّقٌ فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ وَأَنْتَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّانِي سُرَّقًا فَلَنْ أَدَعْ ذَلِكَ أَبَدًا قُلْتُ: وَلِمَ سَمَّاكَ سُرَّقًا؟ قَالَ لَقِيتُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ بِبَعِيرَيْنِ لَهُ يَبِيعُهُمَا فَابْتَعْتُهُمَا مِنْهُ وَقُلْتُ انْطَلِقْ مَعِي حَتَّى أُعْطِيَكَ فَدَخَلْتُ بَيْتِي ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ خَلْفٍ خَرَجَ لِي وَقَضَيْتُ بِثَمَنِ الْبَعِيرَيْنِ حَاجَتِي وَتَغَيَّبْتُ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ قَدْ خَرَجَ فَخَرَجْتُ وَالْأَعْرَابِيُّ مُقِيمٌ فَأَخَذَنِي فَقَدَّمَنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟» قُلْتُ قَضَيْتُ بِثَمَنِهَا حَاجَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «فَاقْضِهِ» قَالَ: قُلْتُ لَيْسَ عِنْدِي. قَالَ: «أَنْتَ سُرَّقٌ، اذْهَبْ بِهِ يَا أَعْرَابِيُّ فَبِعْهُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ حَقَّكَ» قَالَ فَجَعَلَ النَّاسُ يَسُومُونَهُ بِي وَيَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ فَيَقُولُ مَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ نُرِيدُ أَنْ نَبْتَاعَهُ مِنْكَ قَالَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ مِنْكُمْ أَحَدًا أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنِّي اذْهَبْ فَقَدْ أَعْتَقْتُكَ.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْعُ الْحُرِّ فِي الدَّيْنِ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يُبَاعُ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِيمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَقْضِيهِ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ذَلِكَ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا أنْزِلَتْ فِي الرِّبَا وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَقْضِيهِ إِيَّاهُ حُبِسَ أَبَدًا حَتَّى يُوفيه وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ جَلّ وَعَزَّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] هَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] قَالَ: خَاصَمَ رَجُلٌ إِلَى شُرَيْحٍ فِي دَيْنٍ لَهُ فَقَالَ آخَرُ يُعَذِّرُ صَاحِبَهُ إِنَّهُ مُعْسِرٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] فَقَالَ شُرَيْحٌ كَانَ هَذَا فِي الرِّبَا وَإِنَّمَا كَانَ فِي الْأَنْصَارِ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] وَلَا يَأْمُرُنَا اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بِشَيْءٍ ثُمَّ نُخَالِفُهُ احْبِسُوهُ إِلَى جَنْبِ السَّارِيَةِ حَتَّى يُوفيه.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ عَامَّةٍ فِي جَمِيعِ النَّاسِ وَكُلُّ مَنْ أَعْسَرَ أُنْظِرَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَعَارَضَ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَشْيَاءَ مِنَ النَّظَرِ وَالنَّحْوِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي الرِّبَا قَالَ لِأَنَّ الرِّبَا قَدْ أُبْطِلَ فَكَيْفَ يُقَالُ فِيهِ {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280] وَاحْتَجَّ مِنَ النَّحْوِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الرِّبَا لَكَانَ وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلَمَّا كَانَ فِي السَّوَادِ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ عُلِمَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ مِنَ الْأَوَّلِ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ وَكَانَتْ كَانَ بِمَعْنَى وَقَعَ وَحَدَثٌ كَمَا قَالَ: البحر الطويل:
فِدًى لِبَنِي ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي ** إِذَا كَانَ يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ أَشْهَبُ

قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ ظَاهِرُهُ حَسَنٌ فَإِذَا فَتَّشْتَ عَنْهُ لَمْ يَلْزَمْ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ الرِّبَا قَدْ أَبْطَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ قَدْ أَبْطَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى صَحِيحٌ إِنْ كَانَ يُرِيدُ أَلَّا يَعْمَلَ بِهِ وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالَكُمْ} فَمَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْإِعْسَارُ فِي مِثْلِ هَذَا وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِالنَّحْوِ فَلَا يَلْزَمُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ ذُو عُسْرَةٍ وَقَدْ حَكَى النَّحْوِيُّونَ الْمَرْءُ مَقْتُولٌ بِمَا قُتِلَ بِهِ إِنْ خِنْجَرٌ فَخِنْجَرٌ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ فِيهِ غَيْرُ هَذَا وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالضَّحَّاكِ قَالَا: هِيَ فِي الرِّبَا وَالدَّيْنِ فِي كُلِّهِ. فَهَذَا قَوْلٌ يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَاسِخَةً عَامَّةً نَزَلَتْ فِي الرِّبَا ثُمَّ صَارَ حُكْمُ غَيْرِهِ كَحُكْمِهِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ رَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الرِّبَا وَهَذَا تَوْقِيفٌ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ بِقِيَاسٍ وَلَا رَأْيٍ لِأَنَّهُ خَبَّرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ.
فأما {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280] فَجَعَلَهُ قَتَادَةُ عَلَى الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ، وَقَالَ السُّدِّي عَلَى الْمُعْسِرِ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ يَلِيهِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْآيَةِ التَّاسِعَةِ وَالْعِشْرِينَ فَجَاءَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا عَنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ التَّاسِعَةِ وَالْعِشْرِينَ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجْلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] الْآيَةَ.
فَافْتَرَقَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَسَعُ مُؤْمِنًا إِذَا بَاعَ بَيْعًا إِلَى أَجَلٍ أَوِ اشْتَرَى إِلَّا أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا وَيُشْهِدَ إِذَا وَجَدَ كَاتِبًا وَلَا يَسَعُ مُؤْمِنًا إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا أَوْ بَاعَهُ إِلَّا أَنْ يُشْهِدَ وَلَا يَكْتُبُ إِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَى أَجَلٍ وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا عَلَى النَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ لَا عَلَى الْحَتْمِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مَنْسُوخٌ فَمِمَّنْ قَالَ هُوَ وَاجِبٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَمِنَ التَّابِعِينَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَالضَّحَّاكُ، وجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ وَمِنْ أَشَدِّهِمْ فِي ذَلِكَ عَطَاءٌ قَالَ: أَشْهِدْ إِذَا بِعْتَ وَإِذَا اشْتَرَيْتَ بِدِرْهَمٍ أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ أَوْ ثُلُثِ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282].
وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ حَدَّثَنَا شُجَاعٌ، قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَشْهِدْ إِذَا بِعْتَ وَإِذَا اشْتَرَيْتَ وَلَوْ دَسْتَجَةَ بَقْلٍ. وَمِمَّنْ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ إِذَا بَاعَ أَوِ اشْتَرَى إِلَّا أَنْ يُشْهِدْ وَإِلَّا كَانَ مُخَالِفًا كِتَابَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَكَذَا إِنْ كَانَ إِلَى أَجَلٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ وَيُشْهِدَ إِنْ وَجَدَ كَاتِبًا وَاحْتَجَّ بِحُجَجٍ سَنَذْكُرُهَا فِي آخِرِ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ فَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ.
كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ بِالْأَنْبَارِ، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ دَيْسَمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ تَلَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] إِلَى {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]، قَالَ: نَسَخَتْ هَذِهِ مَا قَبْلَهَا.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالْحَكَمِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا عَلَى النَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ لَا عَلَى الْحَتْمِ الشَّعْبِيِّ وَيُحْكَى أَنَّ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وأَصْحَابِ الرَّأْي وَاحْتَجَّ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ فِي أَنَّهَا أَمْرٌ لَازِمٌ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا إِلَى أَجَلٍ أَنْ يَكْتُبَ وَيُشْهِدَ وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ أَجَلٍ أَنْ يُشْهِدَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَأَنَّهُ فَرْضٌ لَا يَسَعُ تَضْيِيعُهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَ بِهِ وَأَمْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَازِمٌ لَا يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا نَسْخًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى النَّاسِخِ أَنْ يَنْفِيَ حُكْمَ الْمَنْسُوخِ وَلَمْ تَأْتِ آيَةٌ فِيهَا لَا تَكْتُبُوا وَلَا تُشْهِدُوا فَيَكُونُ هَذَا نَاسِخًا وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ، لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ غَيْرَ ذَاكَ وَإِنَّمَا هَذَا حُكْمُ مَنْ لَمْ يَجِدْ كَاتِبًا أَوْ كِتَابًا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [البقرة: 283] أَيْ فَلَمْ يُطَالِبْهُ بِرَهْنٍ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ، قَالَ: وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] الْآيَةَ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] الْآيَةَ وَلَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] نَاسِخًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذَا كَلَامٌ بَيِّنٌ غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ الَّذِينَ تَدُورُ عَلَيْهِمُ الْفُتْيَا وَأَكْثَرَ النَّاسِ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَمِمَّا يَحْتَجُّونَ فِيهِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ خَاصَمَ رَجُلًا إِلَى الْحَاكِمِ فَقَالَ بَاعَنِي كَذَا فَقَالَ مَا بِعْتُهُ وَلَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ أَنَّ الْحَاكِمَ يَسْتَحْلِفُهُ وَيَحْتَجُّوُنَ أَيْضًا بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عَمِّهِ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ ثُمَّ اسْتَتْبَعَهُ لِيَدْفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنَهُ فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَشْيَ فَسَاوَمَ قَوْمٌ الْأَعْرَابِيَّ بِالْفَرَسِ وَلَمْ يَعْلَمُوا فَصَاحَ الْأَعْرَابِيُّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَبْتَاعُهُ مِنِّي أَمْ أَبِيعُهُ فَقَالَ: «أَلَيْسَ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا ابْتَعْتُهُ مِنِّي فَأَقْبَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ لَهُ وَيْحَكَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا، فَقَالَ: «هَلْ مِنْ شَاهِدٍ» فَقَالَ: خُزَيْمَةُ أَنَا أَشْهَدُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِمَ تَشْهَدُ؟» قَالَ: أَشْهَدُ بِتَصْدِيقِكَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ.
فَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَ بِغَيْرِ إِشْهَادٍ.
فأما مَا احْتَجَّ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ فَصَحِيحٌ غَيْرَ أَنَّ ثَمَّ وَجْهًا يُخَرَّجُ مِنْهُ لَمْ يَذْكُرْهُ وَهُوَ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ رَوَى عَنِ، ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] قَالَ نُنْسِهَا نَتْرُكُهَا، هَكَذَا يَقُولُ الْمُحْدِثُونَ وَالصَّوَابُ نَتْرُكُهَا.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَفِي هَذَا مَعْنًى لَطِيفٌ شَرَحَهُ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيَّنَ مَعْنَى ذَلِكَ قَالَ نَنْسَخُهَا نُزِيلُ حُكْمَهَا بِآيَةٍ غَيْرِهَا وَ {نُنْسِهَا} [البقرة: 106] نُزِيلُ حُكْمَهَا بِأَنْ نُطْلِقَ لَكُمْ تَرْكَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ} [الممتحنة: 12] الْآيَةَ ثُمَّ أَطْلَقَ لِلْمُسْلِمِينَ تَرْكَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ آيَةٍ نَسَخَتْهَا، فَكَذَا {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] وَكَذَا {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَأَمَّا النَّسْخُ فَكَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، وَأَمَّا النَّدْبُ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ: لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ إِلَّا فِي السَّفَرِ لِأَنَّهُ فِي الْآيَةِ كَذَلِكَ، فَقَوْلٌ شَاذٌّ، الْجَمَاعَةُ عَلَى خِلَافِهِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَقُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ يوسُفَ بْنِ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ لِأَهْلِهِ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَلَيْسَ كَوْنُ الرَّهْنِ فِي الْآيَةِ فِي السَّفَرِ مِمَّا يُحْظَرُ غَيْرُهُ وَأَمَّا {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] وَالْفَائِدَةُ فِي {بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] وَقَدْ تَقَدَّمَ {تَدَايَنْتُمْ} [البقرة: 282] فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ تَدَايَنَّا أَيْ تَجَازَيْنَا وَتَعَاطَيْنَا الْأَخْذَ بَيْنَنَا فَأَبَانَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بِقَوْلِهِ {بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَ لَهُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْآيَةِ الَّتِي هِيَ تَتِمَّةُ ثَلَاثِينَ آيَةً مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ عَامَّةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ خَاصَّةٌ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ تَتِمَّةُ ثَلَاثِينَ آيَةً:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] الْآيَةَ.
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: إِحْدَاهُنَّ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] وَسَنَذْكُرُهُ بِإِسْنَادِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَأَنَّهَا عَامَّةٌ يُحَاسَبُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ بِمَا أَبْدَى وَأَخْفَى فَيُغْفَرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُعَاقَبُ الْكَافِرُونَ وَالْمُنَافِقُونَ وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ وَأَنَّهَا فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَإِظْهَارِهَا كَذَا رَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
فأما الرِّوَايَةُ عَنْ، عَائِشَةَ، فَإِنَّهَا قَالَتْ مَا هَمَّ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ خَطِيئَةٍ عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ فِي الدُّنْيَا. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ.
وَقُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسَكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] فَقَالَ: هَذَا فِي الشَّكِّ وَالْيَقِينِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الْخَمْسَةُ يَقْرَبُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فَقَوْلُ مُجَاهِدٍ فِي الشَّكِّ وَالْيَقِينِ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهَا لَمْ تُنْسَخْ وَإِنَّهَا عَامَّةٌ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ مِقْسَمٌ إِنَّهَا فِي الشَّهَادَةِ يَصِحُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الشَّهَادَةِ بِمَنْزِلَتِهَا وَقَوْلُ عَائِشَةَ إِنَّهَا مَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَنْ تَكُونَ عَامَّةً أَيْضًا.
فأما أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً فَيَصِحُّ مِنْ جِهَةٍ وَيَبْطُلُ مِنْ جِهَةٍ.
فأما الْجِهَةُ الَّتِي تَبْطُلُ مِنْهَا فَإِنَّ الْأَخْبَارَ لَا يَكُونُ فِيهَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ فِيَ الْأَخْبَارِ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا فَقَدْ أَلْحَدَ أَوْ جَهِلَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُحَاسِبُ مَنْ أَبْدَى شَيْئًا أَوْ أَخْفَاهُ فَمُحَالٌ أَنْ يُخْبِرَ بِضِدِّهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحُكْمَ إِذَا كَانَ مَنْسُوخًا فَإِنَّمَا يُنْسَخُ بِنَفْيِهِ وَبِآخَرَ نَاسِخٌ لَهُ نَافٍ لَهُ مِنْ كُلِّ جِهَاتِهِ فَلَوْ كَانَ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] نَاسِخًا لَنَسَخَ تَكْلِيفَ مَا لَا طَاقَةَ بِهِ وَهَذَا مَنْفِيٌّ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَتَعَبَّدَ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ كَانَ يُلَقِّنُ أَصْحَابَهُ إِذَا بَايَعُوا «فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ» فَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُتَبَيَّنَ وَيُوقَفَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُعَانِدَ رُبَّمَا عَارَضَ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي أَشْيَاءَ مِنَ الْأَخْبَارِ نَاسِخَةٌ وَمَنْسُوخَةٌ فَالْجَاهِلُ بِاللُّغَةِ إِمَّا أَنْ يُحَيَّرَ فِيهَا وَإِمَّا أَنْ يُلْحِدَ فَيَقُولُ فِي الْأَخْبَارِ نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ قَامَ فُلَانٌ ثُمَّ نُسِخَ هَذَا فَقَالَ لَمْ يَقُمْ فَقَدْ كَذَبَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَبْيِينُ مَا أَرَادَ كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَنْبَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ زِيَادٍ الرَّقِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، تَلَا {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسَكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ فَبَلَغَ صَنِيعُهُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَنَعَ كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُنْزِلَتْ وَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] مَعْنَى نَسَخَتْهَا نَزَلَتْ بِنُسْخَتِهَا سَوَاءً وَلَيْسَ هَذَا مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي شَيْءٍ.
قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّقْرِ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] لَحِقَتْهُمْ مِنْهَا شِدَّةٌ حَتَّى نَسَخَهَا مَا بَعْدَهَا.
وَفِي هَذَا مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى نَسَخَتْهَا نَسَخَتِ الشِّدَّةَ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ أَيْ أَزَالَتْهَا كَمَا يُقَالُ نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ أَيْ أَزَالَتْهُ وَمِنْ حُسْنِ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ وَأَشْبَهَهُ بِالظَّاهِرِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهَا عَامَّةٌ يَدُلُّكُ عَلَى ذَلِكَ.
مَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ وَهُوَ ابْنُ حَرْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ وَهو ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ هِشَامٍ وَهوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يُدْنِي الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ تَعَالَى حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ، قَالَ: فَإِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ. فأما الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ» فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حَقِيقَةُ مَعْنَى الْآيَةِ وَأَنَّهُ لَا نَسْخَ فِيهَا وَإِسْنَادُهُ إِسْنَادٌ لَا يَدْخُلُ الْقَلْبَ مِنْهُ لَبْسٌ وَهُوَ مِنْ أَحَادِيثِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

.سورة آلِ عِمْرَانَ:

قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: لَمْ نَجِدْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدُ تَقَصٍّ شَدِيدٍ مِمَّا ذُكِرَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ وَلَوْلَا مَحَبَّتُنَا أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مُشْتَمِلًا عَلَى كُلِّ مَا ذُكِرَ مِنْهَا لَكَانَ الْقَوْلُ فِيهَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ بنَاسِخَةٍ وَلَا مَنْسُوخَةٍ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41].
فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ شَرِيعَةٌ قَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَكَانَ لَنَا أَنْ نَسْتَعْمِلَهَا مَا لَمْ تُنْسَخْ ثُمَّ إِنَّهَا نُسِخَتْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَرَامُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدِ ابْنَيْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا صَمْتَ يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ» قَالَ فَنَسَخَ إِبَاحَةَ الصَّمْتِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مَرْيَمَ {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] لَيْسَ فِي هَذَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ لِأَنَّ الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا صَمْتَ يَوْمًا» أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَصْمُتَ يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ فَلَا يَذْكُرُ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ وَلَا يُسَبِّحُ وَهَذَا مَحْظُورٌ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ بَعْدَ قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41] الْأَمْرُ بِالتَّسْبِيحِ عَشِيًّا وَبِكْرًا وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ مَنْسُوخَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ مُحْكَمَةٌ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102].
فَمِنْ أَجْلِ مَا رُوِيَ فِي تَفْسِيرِهَا وَأَصَحُّهُ مَا حَدَّثَنَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] قَالَ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَنْبَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] قَالَ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى ثُمَّ أَنْزَلَ جَلَّ وَعَزَّ التَّخْفِيفَ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَنَسَخَتْ هَذِهِ الَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: مُحَالٌ أَنْ يَقَعَ فِي هَذَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ إِلَّا عَلَى حِيلَةٍ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى نَسْخِ الشَّيْءِ إِزَالَتُهُ وَالْمَجِيءُ بِضِدِّهِ، فَمُحَالٌ أَنْ يُقَالَ اتَّقُوا اللَّهَ مَنْسُوخٌ وَلَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا فِيهِ بَيَانُ الْآيَةِ كَمَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ عَلَى الْعِبَادِ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: «أَنْ يَعْبُدُوهُ فَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» أَفَلَا تَرَى أَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَقَعَ فِي هَذَا نَسْخٌ؟ وَالَّذِي قُلْنَاهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] قَالَ: لَمْ تُنْسَخْ وَلَكِنْ حَقُّ تُقَاتِهِ أَنْ تُجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَلَا تَأْخُذْكُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَتَقُومُوا بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى آبَائِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَكُلُّ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعْمِلُوهُ وَلَا يَقَعُ فِيهِ نَسْخٌ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَكَذَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنْ يُطِيعُوا اللَّهَ فَلَا يُعْصُوهُ وَيَذْكُرُوهُ فَلَا يَنْسَوْهُ وَأَنْ يَشْكُرُوهُ فَلَا يُكْفَرُوهُ وَأَنْ يُجَاهِدُوا فِيهِ حَقَّ جِهَادِهِ.
فَأَمَّا قَوْلُ قَتَادَةَ مَعَ مَحِلِّهِ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّهَا نُسِخَتْ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ نَزَلَتْ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} بِنَسْخَةِ {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] وَأَنَّهَا مِثْلُهَا لِأَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا إِلَّا طَاقَتَهُ وَزَعَمَ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ الْآيَةَ الثَّالِثَةَ نَاسِخَةٌ وَقَالَ غَيْرُهُمْ هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بنَاسِخَةٍ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].
فَزَعَمَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِلْقُنُوتِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الصُّبْحِ وَاحْتُجَّ بِحَدِيثٍ حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ بَعْدَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا نَاسًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] الْآيَةَ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذَا إِسْنَادٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى نَاسِخٍ وَلَا مَنْسُوخٍ وَإِنَّمَا نَبَّهَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ إِلَيْهِ وَلَوْ كَانَ هَذَا نَاسِخًا لَمَا جَازَ أَنْ يُلْعَنَ الْمُنَافِقُونَ.
وَاحْتُجَّ أَيْضًا بِمَا حَدَّثَنَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ أَوْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَرُبَّمَا قَالَ إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهَ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ حَتَّى أُنْزِلَتْ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]».
وَهَذَا أَيْضًا نَظِيرُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وفيه حُجَّةٌ عَلَى الْكُوفِيِّينَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بِمَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا شَيْءٌ؛ وَلِذَلِكَ عَارَضَ هَذَا الْمُحْتَجُّ بِأَنْ جَعَلَهُ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ بِلَا حُجَّةٍ قَاطِعَةٍ وَلَا دَلِيلٍ وَاضِحٍ لِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءُ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِ مَا فِي الْقُرْآنِ وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا كَانَتْ تَعْرِفُ الصَّلَاةَ فِي كَلَامِهَا الدُّعَاءَ كَمَا قَالَ: البحر البسيط:
تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُرْتَحِلًا ** يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا

عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي ** نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا

فَسُمِّيَتِ الصَّلَاةُ صَلَاةً لِأَنَّ الدُّعَاءَ فِيهَا وَهَذَا قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ إِنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْعُوَ فِي صَلَاتِهِ بِمَا شَاءَ مِنَ الطَّاعَةِ وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِمَّا صَحَّ سَنَدُهُ فِي نُزُولِ الْآيَةِ غَيْرُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: شُجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَرُمِيَ رَمْيَةً عَلَى كَتِفِهِ فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «كَيْفَ تُفْلِحُ أُمَّةٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِنَاقِضٍ لِمَا تَقَدَّمَ يِكَوْنُ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا كَانَا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّكَ تَنْهَى عَنِ السَّبْيِ تَقُولُ قَدْ سُبِيَ الْعَرَبُ ثُمَّ تَحَوَّلُ فَحَوَّلَ قَفَاهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَشَفَ اسْتَهُ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَعَنَهُ وَدَعَا عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] ثُمَّ أَسْلَمَ الرَّجُلُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ».
وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ سَالِمًا هُوَ الَّذِي وَصَلَهُ عَنْ أَبِيهِ وَفِي هَذَا زِيَادَةٌ أَنَّ الرَّجُلَ أَسْلَمَ فَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ شَيْئًا وَأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ جَلَّ وَعَزَّ يَتُوبُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيُعَجِّلُ الْعُقُوبَةَ لِمَنْ يَشَاءُ وَالتَّقْدِيرُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ دُونَكَ وَدُونَهُمْ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَتُوبُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا كُلِّهِ أَنْ لَا نَاسِخَ وَلَا مَنْسُوخَ فِي هَذَا.
أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَعَنْ عُثْمَانَ الْجَزَرِيِّ، عَنْ مِقْسَمٍ، قَالَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَاصٍ حِينَ كُسِرَ رَبَاعِيَتُهُ وَدَمِيَ وَجْهُهُ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ لَا يَبْلُغُ الْحَوْلَ حَتَّى يَمُوتَ كَافِرًا» قَالَ فَمَا بَلَغَ الْحَوْلَ حَتَّى مَاتَ كَافِرًا إِلَى النَّارِ.

.سورة النِّسَاءِ:

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الأولى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشْكَالٌ وَتَفْسِيرٌ وَنَحْوٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ مِنَ النَّسْخِ فَإِنَّهَا عَلَى مَذْهَبِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ نَاسِخَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَبُرْهَةٍ مِنَ الْإِسْلَامِ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ مَا شَاءَ مِنَ الْحَرَائِرِ فَنَسَخَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَمَلِ وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ فَوْقَ أَرْبَعٍ وَنَسَخَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ كَانَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ وَعِنْدَهُ عَشْرَةُ نِسْوَةٍ مِنْهُنَّ مَنْ قَدْ تَزَوَّجَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمِنْهُنَّ مَنْ قَدْ تَزَوَّجَهُ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ أَكْثَرُ أَوْ أَقَلُّ حَتَّى سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْيَتَامَى فَنَزَلَتْ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] أَيْ تَعْدِلُوا {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] أَيْ فَكَمَا خِفْتُمْ فِي الْيَتَامَى فَخَافُوا فِي نِكَاحِ النِّسَاءِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي رَجُلٍ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ قَالَ: يُخَلِّي مِنْهُنَّ سِتًّا وَيُمْسِكُ أَرْبَعًا مِنَ اللَّوَاتِيِ تَزَوَّجَ بَدْءًا فَبَدْءًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا فَإِنِ احْتُجَّ بِالْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَيَّرَ غَيْلَانَ فَقَالَ: «اخْتَرْ أَرْبَعًا» قِيلَ لِلْمُحْتَجِّ بِهَذَا إِنَّ غَيْلَانَ تَزَوَّجَ عَشْرًا وَذَلِكَ مُبَاحٌ فَكَانَ الْعَشْرُ مُبَاحَاتٍ فَلَمَّا رُفِعَ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ اخْتَرْ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا كَلَامٌ لَطِيفٌ حَسَنٌ غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وأَبَا حَنِيفَةَ يُخِيِّرُونَهُ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ يُحَرِّمُونَ مَا فَوْقَ الْأَرْبَعِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ حُرَيْثٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَسْلَمَ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ».
قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ حُمَيْضَةَ بْنِ الشَّمَرْدَلِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: أَسْلَمْتُ وَكَانَ تَحْتِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثَمَانِي نِسْوَةٍ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: «اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَخَلِّ سَائِرَهُنَّ» فَفَعَلْتُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَمَعْنَى مَثْنَى فِي اللُّغَةِ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ وَثُلَاثٍ ثَلَاثًا ثَلَاثًا هَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ، وسِيبَوَيْهِ، وَالْكِسَائِيِّ، وَغَيْرِهِمْ وَلِهَذَا لَمْ يُصْرَفْ، وَقِيلَ مَعْدُولٌ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ اثْنَتَيْنِ فَقَطْ فَيُعَارِضُ مُعَارِضٌ بِأَنْ يَقُولَ اثْنَتَانِ وَثَلَاثٌ وَأَرْبَعٌ تِسْعٌ وَأَيْضًا فَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْفُصَحَاءِ اشْتَرِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ تِسْعًا لَكَانَ الْمَعْنَى انْكَحُوا تِسْعًا أَوْ وَاحِدَةً وَكَانَ مَحْظُورًا مَا بَيْنَ ذَيْنِكَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ احْتِجَاجَاتٌ قَاطِعَةٌ وَإِنْ كَانَ فِي تَوْقِيفِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِفَايَةٌ مَعَ الْإِجْمَاعِ مِنَ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى غَلَطٍ وَلَا خَطَأٍ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ مُخَاطِبًا لِلْأَوْصِيَاءِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6].
فَمَنَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْوَصِيَّ مِنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ فَحَكَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، قَالَ: لَا أَدْرِي لَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا إِذَا كَانَ مُقِيمًا مَعَهُ فِي الْمِصْرِ فَإِنِ احْتَاجَ أَنْ يُسَافِرَ مِنْ أَجْلِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَلَا يَقْتَنِي شَيْئًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]، قَالَ نُسِخَ: الظُّلْمُ وَالِاعْتِدَاءُ وَنَسَخَتْهَا {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].
ثُمَّ افْتَرَقَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ فِرَقًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنِ احْتَاجَ الْوَصِيُّ فَلَهُ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ فَإِذَا أَيْسَرَ قَضَاهُ وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعُبَيْدَةَ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَاسْتَشْهَدَ عُبَيْدَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ بِأَنَّ بَعْدَهُ {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6].
كَمَا قُرِئَ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ غُلَيْبِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يوسُفَ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ يَرْفَأَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا يَرْفَأُ إِنِّي أَنْزَلْتُ مَالَ اللَّهِ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْيَتِيمِ، إِنِ احْتَجْتُ أَخَذْتُ مِنْهُ، فَإِذَا أَيْسَرْتُ قَضَيْتُهُ، وَإِنِّي إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ، فَإِنِّي قَدْ وُلِّيتُ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَمْرًا عَظِيمًا.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْهُمْ عُبَيْدَةُ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَّا قَرْضًا وَاسْتَشْهَدَ بِأَنَّ بَعْدَ هَذَا {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٍ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: يَسْتَلِفُ وَالِي الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ فَإِذَا أَيْسَرَ رَدَّهُ.
قَالَ رَوْحٌ وَحَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ سَعِيدٍ، {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] قَالَ: قَرْضًا. وَفُقَهَاءُ الْكُوفِيِّينَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ مِمَّا يَجْنِي مِنَ الْغَلَّةِ.
فأما الْمَالُ النَّاضُّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا قَرْضًا وَلَا غَيْرَهُ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ فَقَالُوا: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مِقْدَارَ قُوتِهِ مِنْهُمُ الْحَسَنُ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: إِذَا احْتَاجَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ أَكَلَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا أَيْسَرَ قَضَاؤُهُ وَالْمَعْرُوفُ قُوتُهُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَالنَّخَعِيِّ.
كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] قَالَ: مَا سَدَّ الْجُوعَةَ وَوَارَى الْعَوْرَةَ وَلَيْسَ يَلْبَسُ الْكَتَّانَ وَلَا الْحُلَلَ.
وَاخْتُلِفَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا عَلَى أَنَّ الْأَسَانِيدَ عَنْهُ صِحَاحٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْمُتُونِ فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْأَزْهَرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّ لِي إِبِلًا أَفْقِرُ ظُهُورَهَا وَأَحْمِلُ عَلَيْهَا وَلِي يَتِيمٌ لَهُ إِبِلٌ فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا؟ قَالَ: إِذَا كُنْتَ تَهْنَأُ جَرْبَاهَا وَتَلُوطُ حَوْضَهَا وَتَنْشُدُ ضَالَّتَهَا وَتَسْقِي وِرْدَهَا فَاحْلُبْهَا غَيْرَ نَاهِكٍ لَهَا فِي الْحَلْبِ وَلَا مُضِرٍّ بِنَسْلِهَا.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَأَنَّ الْوَصِيَّ إِنَّمَا يَأْخُذُ مِقْدَارَ عَمَلِهِ كَانَ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ فِي ذَلِكَ وَاحِدًا وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بَيْنَهُمَا فِي الْآيَةِ بِعَيْنِهَا وَرَوَى، عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] قَالَ إِذَا احْتَاجَ وَاضْطُرَّ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَخَذَ فَإِذَا وَجَدَ أَوْفَى وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ إِذَا اضْطُرَّ هَذَا الِاضْطِرَارَ كَانَ لَهُ أَخْذُ مَا يُقِيمُهُ مِنْ مَالِ يَتِيمِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ كَمَا قُرِئَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ يوسُفَ بْنِ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] قَالَ: بِغِنَاهُ وَلَا يَأْكُلُ مَالَ الْيَتِيمِ {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] قَالَ يَقُوتُ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إِلَى مَالِ الْيَتِيمِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا رُوِيَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ لِأَنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ مَحْظُورَةٌ لَا يُطْلَقُ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا بِحُجَّةٍ قَاطِعَةٍ وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَى الْآيَةِ وَاحْتَمَلَتْ غَيْرَ تَأْوِيلٍ فَعَدَلْنَا إِلَى هَذَا لِمَا قُلْنَا، وَهُوَ قَوْلٌ مَحْكِيٌّ مَعْنَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ عَلَى الْقَرْضِ.
فأما مُذْهِبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ بَعْضِهِمْ فَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِ الْحَسَنِ وَاحْتَجَّ لَهُمْ مُحْتَجٌّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ، قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فِي حَجْرِي يَتِيمًا أَفَأَضْرِبُهُ؟ قَالَ: «مِمَّا تَضْرِبُ مِنْهُ وَلَدَكَ» قَالَ: أَفَأُصِيبُ مِنْ مَالِهِ قَالَ: «غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا وَلَا وَاقٍ مَالَكَ بِمَالِهُ».
وَقُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ النَّيْسَابُورِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَجِدُ شَيْئًا أَوَلَيْسَ لِي شَيْءٌ وَلِيَتِيمُي مَالٌ، قَالَ: «كُلْ مِنْهُ غَيْرَ مُسْرِفٍ وَلَا مُتَأَثِّلٍ مَالًا» قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: «وَلَا تَفْدِ مَالَكَ بِمَالِهِ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَالَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى هَذَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِنَّمَا يُجِيزُونَ أَخْذَ الْقُوتِ وَمَا لَا يَضُرُّ بِالْيَتِيمِ وَالَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مِنْ أَحَادِيثِ الْمَشَايخِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُقْطَعُ بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ مُحْكَمَةٌ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}
لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَاجِبَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ عَلَى النَّدْبِ وَالتَّرْغِيبِ وَالْحَضِّ، فَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ يوسُفَ بْنِ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] قَالَ: نَسَخَهَا {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11].
وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ، قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} قَالَ: نَسَخَهَا الْمِيرَاثُ وَالْوَصِيَّةُ. وَقَالَ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ أَبُو مَالِكٍ، وعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَتُؤُوِّلَ قَوْلُهُ عَلَى النَّدْبِ عُبَيْدَةُ، وَعُرْوَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ كَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ قِسْمَةِ مَوَارِيثِهِمْ أَنْ يَصِلُوا أَرْحَامَهُمْ وَأَيْتَامَهُمْ وَمَسَاكِينَهُمْ مِنَ الْوَصِيَّةِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَصِيَّةٌ وُصِّلَ لَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ أَنْ تَكُونَ عَلَى النَّدْبِ وَالتَّرْغِيبِ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ وَالشُّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى فَأَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ الَّذِينَ فَرَضَ لَهُمُ الْمِيرَاثَ إِذَا حَضَرُوا الْقِسْمَةَ وَحَضَرَ مَعَهُمْ مَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ أَنْ يَرْزُقُوهُمْ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا فَرَضَ لَهُمْ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا نَسْخٌ لِأَنَّ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ لَا يَخْلُو أَمْرُهُ مِنْ إِحْدَى جِهَتَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ كَانَتْ نَدْبًا ثُمَّ نُسِخَتْ وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ النَّدْبَ إِلَى الْخَيْرِ لَا يُنْسَخُ لَأَنَّ نَسْخَهُ لَا تَفْعَلُوا الْخَيْرَ وَهَذَا مُحَالٌ أَوْ تَكُونُ كَانَتْ وَاجِبَةً فَنُسِخَتْ وَهَذَا أَيْضًا لَا يَكُونُ لِأَنَّ قَائِلَهُ يَقُولُ إِنَّهِ كَانَ إِذَا حَضَرَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ أَعْطَوْهُمْ وَلَمْ يُعْطُوا الْعَصَبَةَ فَنُسِخَ ذَلِكَ بِالْفَرْضِ وَهَذَا لَمْ يُعْرَفْ قَطُّ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْآيَةَ إِذَا ثَبَتَتْ فَلَا يُقَالُ فِيهَا مَنْسُوخَةٌ إِلَّا أَنْ يَنْفَى حُكْمُهَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ، ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَاهُ عَنْهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ هَذَا مُخَاطَبَةً لِلْمُوصِي نَفْسِهِ وَكَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ قِيلَ لِلْمُوصِي أَوْصِ لِذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا بِأَنَّ بَعْدَهُ {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 5] أَيْ إِنْ لَمْ تُوصُوا لَهُمْ فَقُولُوا لَهُمْ خَيْرًا وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ.
فأما الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُحْكَمَةٌ وَاجِبَةٌ.
كَمَا حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} قَالَ: هِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ مَا طَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذَا مُجَاهِدٌ يَقُولُ بِإِيجَابِهَا بِالْإِسْنَادِ الَّذِي لَا تُدْفَعُ صِحَّتَهُ وَهَذَا خِلَافُ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْإِسْنَادُ أَصَحُّ.
أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} قَالَا: هِيَ مُحْكَمَةٌ مَا طَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ عِنْدَ أَهْلِ الْمِيرَاثِ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّتَهُ وَالصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ أَنَّهُمَا مَنْسُوخَتَانِ.